كنوز التراث، الحجر لريمون يزبك

للصورة الفوتوغرافية حضور أولي في كتاب ” كنوز التراث، الحجر” للمصوّر ريمون يزبك، وقد يكفي مطالعه تصفح صفحاته الخمسمئة والاثنتين والخمسين المزينة بألف ومئتين واثنتين وستين صورة جرى التقاطها بالألوان لمنازل، وسيلة عمارها الحجر، للاطمئنان الى صواب الانطباع الفوري بالنظر سريعاً الى محتويات مجلّد يصعب وصفه بغير الضخم والكثيف والمبعثر بدءاً، قبل أن تتوضّح لزائره ، بعد استيعاب مادته، الركائز التي وراء بنائه على صورة معجم تصطف فيه المناطق بمدنها وبلدانها وقراها، بحسب ايقاع ابجدي عام، المدخل الوحيد الى “فلفشته” بفضول ذكي.
يشي كتاب “كنوز التراث، الحجر” بعد مساءلة دقيقة لمادته الفوتوغرافية، بعدد وفير من الدوافع أدّت ربما بمصوره ومؤلفه الى اصداره تحت هاجسين يفسران طبيعة بنيته وتفاصيل محتوياته: مصادرة الكتاب بالكامل اولاً لمصلحة الصورة الفوتوغرافية التي يحترفها ريمون يزبك كأنها اداته الرئيسية وشبه الوحيدة للتعبير، مما يهب الكتاب طابع “الألبوم” لفوتوغرافيات من طينة مميزة في فرادة خصائصها، ويبرز مبرر التقاطها ومصادر جميع الصور الفوتوغرافية في الكتاب، ثانياً لسرد حكايات كانها تبدأ ولا تنتهي، يرويها الحجر وترويه، كمن يوثق تراثاً معمارياً بعين حرّة لمصوّر فنان لا يدّعي أكثر مما تدونه كاميراه بضغط من عنصري القيمة الفنية الفوتوغرافية والحضور التراثي الجلي للحجر.

هو الحجر اذاً، كجزء بارز من التراث البلدي، يؤلف هنا، المتن الصلب، الثابت والمتحرك في آن واحد، لمغامرة فنية توسلت الفن الفوتوغرافي لرواية حكاياتها، اي انه الحجر في دور المفردة التي تستكمل المعنى سوى ضمن جملة مفيدة، مرادفها في كتاب ريمون يزبك، جدار في بناء أو واجهة لحارة، او تفصيل معماري في عمارة تؤكد دور هذا الحجر في معايشة مجتمعاتنا لجغرافياتها وتواريخها. يأتي انتقال الفوتوغراف من الحجر الى الجدار الى البناء المعمّر تلقائياً عفوياً، حيث ان لتحركه دافعاً محرّضاً لا يخفيه ما يشي به محتوى الكتاب: أي انجاز صورة فوتوغرافية تلبي جهده وراء صورة نموذجية للموقع المعماري المميّز الذي أوصله اليه حبّه للحجر كمادة تختزن في نظره ذاكرة بلد وتاريخ ناس.

يتصرّف ريمون يزبك كمصوّر محترف، على تماس شغوف بالمنظر المعماري، لكأن عشقه للحجر نما فيه وتطوّر حتى حوى الموقع الذي يصنعه الحجر عندما يتراكم في بناء جذاب وذي حضور يؤهله للتحوّل الى صورة فوتوغرافية، أي ان عينه فوتوغرافية لا معمارية، وليس هذا الكتاب سوى الصدى لعين ترى، تنجذب تختار زاوية لنظرتها، تتأكد من صواب وقفتها، تتحكم جيداً بتصويب عدسة الكاميرا، وعند ذاك فقط تقبل بالتقاط صورة للمنظر المعماري من منظار من يعمل لوثيقة قد تؤرخ يوماً لواقعة في حكاية في وطن الحكايات الضائعة، هذا لا يمنع عن الكتاب صفته كمؤلف يضج حتى الصخب بالتفاصيل المعمارية التي قد يستفيد منها الباحث القاطن لانجاز أكثر من دراسة معمّقة في احد المظاهر الرئيسية لفن العمارة التراثية في لبنان والمركزة على الحجر، من الخام الى المصقول الى المنحوت، والمتوّجة إن بالسقف الترابي أو بالغطاء القرميدي.

جملة لغسان تويني في مقدمة الكتاب تحضر قارئه للغوص في صفحاته: “كلما وقفت أتأمل في منزل من حجر، قصراً كان أو كوخاً، أحسست بأنني في حضرة كتاب مقدس”. كأنه يؤسس اطاراً ملوناً لسؤال يطرحه الزميل مارسيل غانم: “من يحمي حارات الذاكرة؟ من يحمي ذخائر المستقبل؟ في حين ان زائر الكتاب يخرج منه كالمصاب بدوار لذيذ، لعجقة في عينه بين التخمة والرغبة باكثر ولاكتشافه غير المتوقع لكمّ هائل من منازل الحجر” يدعونا اليها ريمون يزبك ونحن نجول معه بين أسرار حاراتنا التي ابقتها وتبقيها عدسته روحاً نابضة بالحياة، على قول مارسيل غانم، في ألبوم فوتوغرافي يقول عنه غسان تويني انه لمصور محترف وليس فيلسوفاً نظنه شهادة على قدسية الحجر في ابعاده الثلاثة: الجمال البسيط، والتراث، والتاريخ”. ويحكي الكتاب قصصاً كتلك القصيرة التي تختزل من غير قصد صوراً فوتوغرافية كحكايات الأيام. غير ان للحجر عمراً، اذ قصّبته يد خام او صقله ازميل الاختصاصي. ويتلمّس ريمون يزبك في كتابه افضل الطرق للاحاطة بصوره الـ 12162 بأدق المعلومات حول موقع المنظر المعماري المصور (القضاء والبلدة) ومالكه وتاريخ بنائه المؤكد او التقريبي وعلوه عن سطح البحر، الى بعده بالكيلومترات عن العاصمة بيروت. لكن يلفت القارىء بالنسبة الى العمار بالحجر، غياب الحدود الزمنية في تحديد دور الحجر في عملية التعمير في لبنان، غير ان الثابت المعماري يظل ان الحجر موجود خصوصاً في المناطق اللبنانية الصخرية ناحية الجبال اولاً. والأمر سيبقى على ما هو عليه الى انتشار البناء بالباطون في القرن العشرين الذي اصيب بفقدان الحجر تدريجياً حتى كاد لندرته ، يتحول مادة ثمينة كاداة الزخرفة.

اهدى ريمون يزبك كتابه الى جبران تويني، الى سخاء روحه وفؤاده وفاءً الى ذكرى رجل اعطاني أنبل اوسمته. وترى الزميلة مي منسى الى محتويات الكتاب انها تضيف روحاً الى روح لبنان. للكتاب مفاتيح عدة يقود كل منها الى غرف ثمين لمعلومات مفيدة، من التي ذات طابع سياحي الى المعلومات الجادة وراء دراسات في فنون العمارة والتنظيم المدني وتصميم المناظر المعمارية الدائرة حول التصاق المنازل بالطبيعة حولها، مما يهب الكتاب دوراً اكاديمياً صريحاً للمعارف التي في صوره عن أبجدية دق الحجر، وتقنية جمعه في جدار، وتنوع توظيفه في تصميم الأدراج وبلكنته (من بلكون) ضمن احترام مؤهلاته للتواصل والحمل… الخ. من دون ان يقلل هذا التوظيف الجامعي من حضوره الفتي ككتاب فريد من دون ادعاء وثمين بخفر وتأنق وكريم بمادته كما بكثافة النماذج التي يقدمها الى قارىء في حالة قصوى من النقض في المجالات التي تغطيها المحتويات.

نزيه خاطر