شيل الدبور من ايدك يا صبي (مقتطفات من كتاب حبر لأوراق الذاكرة – المؤلف جوزف أبي ضاهر)

“شيل الدبور من ايدك يا صبي، الدبور مش لعمرك، فيه اشيا ما لازم تشوفها، عيب”! أضع المجلة من يدي، وقلبي عليها، وفي عيني ملامح أجساد مرسومة بأحلام اليقظة.

تكبر حشرية “الصبي”. يحب معرفة كل شيء، وخصوصا ً “الممنوع”.

حين تفلش الوحدة جناحيها على المكان، وينسى “الرقيب” تحذيره، أعود الى المجلة باحثا عن “العيب” لأمتع النظر به، وأترك له حرية الطيران في دوائر الفراغ.

aمرة بعد مرة، بدأت أكتشف الابتسامة التي تطلع على مهل من المعنى المختبىء خلف الكلمات، وليس فقط خلف خطوط الكاريكاتور الظريف، الحامل ألف ايحاء وايحاء.

…مرة بعد مرة، بدأت أشعر أنني مأخوذ بكل ما في هذه المجلة من مواضيع، بدءا ً من الصورة الى الطرفة، الى النقد، الى “تنين تنين”، الى الزجل والقصة القصيرة، والمسابقة، واعرف عدوك… والى المساحة التي خصصت للأقلام الجديدة، لتكتب ما لديها، وتخرج الى الضوء، وكنت بينها.

كتبت، وحملت الى البريد لهفتي والانتظار الذي طال أسبوعا ً كاملا ً، رأيت بعده توقيعي بين أسماء كتاب “الدبور”، مع تقريظ، ومع لسعة لا بد منها لرداءة الخط الذي كتبت به.

رقصت، حملت المجلة كما حدث معي يوم قرأت اسمي في “دنيا الأحداث” ورحت أدور بها على الأصدقاء، والرفاق.

أنظروا، واقرأوا.

بعضهم فرح وبعضهم أصابته الغيرة. وأما الأهل فقلبوا الشفاه و “زموها”، وحذروا من متابعة هذه الدرب الشائكة التي لا تطعم خبزا ً، ولا تحمل نفعا ً، والأفضل لي أن أهتم بدراستي أولا ً وأخيرا ً، حتى اذا كبرت، اخترت مهنة تشرفني وتفتح بيتا ً، ولا تمت بصلة الى “الجرنلجيه”.

لم أقنع، ولم أقنع (بالألف المضمومة)، وتابعت الكتابة تحت أسماء مستعارة، كي لا أقع في المحظور ثانية. وحين سمحت لي الظروف، حملت ذاتي الى مكاتب المجلة في محلة ال “عصور” تجاه ساحة رياض الصلح. صعدت الدرج الضيق قفزا ً، وصلت الى بابين الأول ل”زنكوغراف اللبان” والثاني لمجلة “الدبور”. قرعت الباب وأنا ألهث. استقبلني رجل ربع القامة، يحمل بيد “بروفة” لمقالة، وباليد الثانية حبة بلح أحمر كاد يضعها في فمه حين سألته عن “الأستاذ ميشال”. رد يده، ورد علي بلكنة مصرية:

– مين عايزو؟
– أنا…!
– وحضرتك تبقى مين؟

نفخت صدري واستجمعت أنفاسي، وقلت له من أكون… فجحظت عيناه وضحك وقال:

– ازاي انت، واحنا افتكرناك راجل!

ربت على كتفي ودعاني الى مكتبه الضيق المعجوق بالأوراق والمجلات والكليشهات الجديدة والقديمة… جلست على طرف كرسي الى جانب الورق والغبار، ولا أذكر أي لون من الأصل ما زال عالقا ًعليه.
رحب بي الأستاذ ميشال ثانية وراح يستجوبني بلطافة الى أن أكمل بطاقة التعريف بي… ودعاني الى متابعة الكتابة، وسألني اذا كنت أعرف كتابة التعليقات للصور الكاريكاتورية فأشرت برأسي “نعم”… حملني بعض الصور لأكتب ما أراه مناسبا ً لها، وأعيدها اليه في اليوم التالي.

خرجت من مكتب “الدبور” وأنا أشعر أن الأرض تحت قدمي تهتز ولا تقع.
… وكرت سبحة الطلبات والكتابات: كان بعضها يصلح للنشر فيأخذ مكانه، والذي لا يصلح للنشر، يأخذ مكانه أيضا ً… وبالطبع، لم أعرف نوع العملة التي كانت ادارة “الدبور” تتعامل بها.

مرت الأيام، وأنا أزور “الدبور” كل أسبوع، حاملا ً ما لدي من تعليقات وزجليات، وآخذ زوادة من الخبرة وصداقة كبار في الصحافة غمروني بمحبتهم، أذكر منهم على سبيل المثال: جورج مصروعه (أبو زيكار)، غنطوس الرامي، عارف الغريب، نعيم الزيلع وغيرهم…

من محلة ال عصور الى المطابع في محلة المتحف، واكتملت معرفتي بالفرسان الثلاثة: ميشال، فؤاد وريشار مكرزل، وصرت أدرك أهمية هذه المجلة التي أسسها يوسف مكرزل سنة 1923 وكانت الأولى من نوعها. “جريدة يومية شعبية، تمزج بين الجد والهزل”.

أخذت “الدبور” (جريدة ثم مجلة)، حيزا ً مهما ً لها في عالم الصحافة الساخرة، في حين كانت هذه الصحافة الساخرة في العالم العربي ممنوعة، أو قليلة، لأن السخرية تحتاج الى أمرين:

الأول: اتساع مساحة الحرية في التعبير كلمة ورسما ً وروحا ً.
والثاني: توفر أقلام ساخرة من غير اسفاف، ناقدة من غير تجريح، وغنية بالمعرفة والتجارب من غير تبجح أو ادعاء.

في الأمر الأول تمد الحرية رأسها ولا تستطيع الخروج من عنق الزجاجة، لأن معظم الأنظمة في الشرق، كانت وما زالت، تفضل أن تكون الحرية ضمن مقاس محدد، فلا يزيد عن المسموح، والمسموح قليل، واذا قل أكثر، فلا ضرر من ذلك.

وهنا برز دون لبنان في استقطاب الباحثين عن الحرية فكرا ً ورأيا ً وكلمة، وحظيت “الدبور” بالمتنفس الذي عبرت به عن الكثيرين.

أما في الأمر الثاني فالأرض كانت خصبة، والأقلام زرعت وحصدت ووضعت غلة في كفتي ميزان، فلا الاثارة من أجل منع خسارة، ولا المديح في غير محله.

النقد السياسي في “الدبور” لم يخرج عن “سكة التوازن”، بينما راح النقد الاجتماعي الى الآخر، وهذا ما أراح أصحاب المجلة والسلطة… وربما بعض الشعراء.

أخبرني الكبير بولس سلامه: أنه كان ليوسف مكرزل الفضل الأول على نهضة الزجل اللبناني، والكتابة المحكية، فهو فسح لهما صدر صفحات “دبوره”، وبخاصة حين كلف حنا الخوري الفغالي تولي رئاسة التحرير، فكتب الأخير بين 1925و1938 في مجالات متنوعة وكان يوقع باسمه مرة، وبأسماء مستعارة مرات. ومن عناوين زواياه الثابتة “الجراب” و”غلة الطاحون”…

و”رسائل شموني” التي جمعها المكرزل في كتاب صدر عن “الدبور” سنة 1928. تبعته أربعة كتب: مذكرات تليجي، هيلاني في الضيعه، نصور مسافر، ويوميات ام لحاف.

وأما وريث المؤسس فكان ميشال الذي عرفته ورافقته سنوات، وهو من مواليد جديدة مرجعيون سنة 1916، وتعود أصوله الى بيت شباب. تعلم في مدرسة الاخوة المسيحيين في القاهرة، تحت رعاية عمه يوسف، قبل أن يعود الى لبنان موظفا ً في المفوضية المصرية، ثم في المفوضية الفرنسية التي تركها ليرث تاريخا ً عريقا ً في الصحافة الساخرة، فجلس على كرسي المؤسس بعد وفاته سنة 1943 حتى سنة 1967.

كانت الكرسي أوسع من حجم الوارث، وبرغم ذلك استطاع أن يوظف صداقاته لكبار في الأدب والشعر والسخرية لخدمة المجلة. وضم اليها: بولس سلامه، أمين نخله، اميل لحود، توفيق وهبه وغيرهم.

من طريف ما يرويه بولس سلامه: أن الأستاذ ميشال طلب مرة من أمين بك (نخله) أن يكتب له افتتاحية المجلة، وأعطاه قلمه وأجلسه مكانه، فصاغ الأمين عقدا ً من جميل الكلام، شاهده لاحقا ً يطوق عنق المجلة ممهورا ً ب قلم ميشال مكرزل.

احتج وعاتب وهدد بالمقاطعة، فرد ميشال: أنا لم أكتب أنني كاتب المقال، فقط كتبت أنه بقلمي. ألم تكتبه “يا بك” بقلمي؟

في مجلة “الدبور” بدأت وجهة المشوار تتضح. منذ منتصف ستينات القرن الماضي… والى اليوم، ما زلت أحتفظ بأرق الذكريات وأجملها، وأحفظ في القلب زاوية لهذه المجلة التي وضعتني على طريق الاحتراف.

مؤلفات جوزف أبي ضاهر

حكايات لها (1973)، كلمات بلون عينيها (1975)، دفتر شعر- بالمحكية اللبنانية (1978)، رسالة الى حبيبتي (1976- وصدر بالفرنسية سنة 1979، ترجمة وديع مبارك)، القبلة وسحر الشفاه (1980)، الياس أبي شبكه الصحافي العاشق (1985)، الاخوان رحباني – هوامش من سيرة ذاتية (1986)، دفاتر الصيف (1987)، يوميات في المنفى (1990- ترجم الى الفرنسية، وصدر بالانكليزية 1994 بترجمة البروفسورين عدنان حيدر ومايكل بيرد)- الزجل اللبناني: شعراء ظرفاء (1991)، انا العاشق البحر (1993)- يا مريم (1994)، أنطون قازان (سلسلة “الكبار”: 1995)، البطريرك الياس الحويك (سلسلة “الكبار”: 1995)، سفر من كتاب امرأة (1996)، قمح لمائدة العصافير (1999)، حكاية كل يوم (2001)، موسوعة الزجل اللبناني- شعراء ظرفاء- 6 أجزاء (الطبعة الأولى 2000- الطبعة الثانية 2005)، قبل ما يفل الزهر (2006)، أربعون وردة لحب مجنون: كابي اسكندر حداد (2008)، عن هاك الصبي (اصدار خاص 2008)، الغيم ناطور الوقت (2008)، نقله الى الفرنسية الدكتور أمين زيدان (2008)، زهر بري (2008)، أهل الرمل (2009)، أنطولوجيا زجل الاغتراب اللبناني (2010)، هل؟ (2010).

سلسلة الزجل اللبناني (عن جامعة الروح القدس- الكسليك)

الرئيس أيوب تابت: شاعر الودي (2009)، الخوري لويس الفغالي: شمس الزجل اللبناني (2009)، أسعد الخوري الفغالي: شحرور الوادي والمنبر (2009)، الياس الفران: سلوى الهموم والغربة (2009)، منصور شاهين الغريب: شيخ الكار (2010)، يوسف فرنسيس البري: زهرة لبنان وصدى كسروان (2010).