Home/

تحت السنديانة – بولس سلامه

تحت السنديانة – بولس سلامه

$50.00

كتاب تحت السنديانة – بولس سلامه – 1969

Description

كتاب تحت السنديانة – بولس سلامة – 1969 – Softcover book, 24×17 cm, 415 pages

مقدمة

مدار هذا الكتاب حقبة من الوقت عايشتها ، وبيئة تقمصتها ، وما زادتها الأيام ، في صدري ، إلا رسوخاً فحرصت على تدوينها . وكأني ، إذ أرسم طرائق العيش في قرية ، قد صورت لبنان القديم بأسره ، لما بين دساكره من المشابه.

وأشفقت أن يتوارى عن البال ذلك الريف الجميل ، فيصبح وكأنه لم يغن بالأمس ولم يسمر به سامر ، فتعلقت ما استطعت بأهداب الزمن الهارب ، لأخلد في ضمير الآتي من الأجيال عهداً آخذاً في الانحلال . ولم أضيق على قلمي فأحبسه في جوانب القرية ، فنأيت به عن تخومها الى الآفاق البعيدة ، فتناولت جماً من الأحداث والشؤون الاجتماعية والتاريخية والأدبية وما يتصل بها، فجعلت عنوانه “تحت السنديانة” ، وتخيّرت للحديث والحوار مطلاً فسيحاً ينعم به البصر ، وتعتبر البصيرة ، ولا يتحيّز فيه الخيال ، وإن لم يكن وليد الخيال ، بل الواقع الذي جلوته صافياً كالمرآة لئلا أشوه الحقائق . ولا ضير علي أني غمست الريشة في مختلف الألوان ، فعل الرسام يظهر الصورة كما هي ، ويضفي على إطارها ما يقتضيه الصنيع الفني ، فوصفت وأطريت وترصنت ومزحت ، ونقدت مفنداً ، موجهاً ، لا ملتزماً التزام المؤرخ ، ولا ناحياً نحو القصصي ، ولا منطلقاً انطلاق الشاعر ، بل آخذاً من كل أولئك بنصيب، فاستطردت حيث يحلو الاستطراد، مطوّفاً بالقارئ ليرى المشاهد من القنن ، فتشمل نظرته من الأنجاد والأغوار ، والسهول والربى ، ما لا تدركه العين من شرف ثابت . فاذا كانت الأرض التي نحسبها جامدة تدور ، والجبال تمر مر السحاب ، فكيف بالحياة المختلجة أبداً تواقة الى التنقل من حال الى حال .

ولقد حرصت على رشاقة الأسلوب فلم أشده ( بأمراس كتـان الى صم جندل ) بل يسرت البيان غير متكلف ولا متأنق ، فجعلته سائغاً مسايراً بساطة الريف ، مفصلاً اللفظ على قدر المعنى . ولئن صح التشبيه بالنسيج فلقد سلكت في الديباجة القطن والصوف ، وراوحت بينهما بقليل من الحرير ، فما موهت ولا هولت بالدمقس الذي يجهد بعض الحاكة في صرف الأنظار اليه ، فاذا تحراه الخبير عاد منه بخيبة الظمآن قد حسب السراب ماء فاذا هو خداع الهجير .

ولم أتحرج من استعمال ألفاظ خلت منها المعاجم ، إلا معجم القرى ، فأدرجتها في التعبير عن معاش بني قومنا ، بعد إذ تداولتها الألسن أحقاباً . وما تورعت عن إيراد المصطلحات والأغاني والصلوات والأمثال العامية بحذافيرها لئلا أفقدها شيئاً من روحها فأنقلها الى مناخ لا تصح عليه فأجني عليها . وما أراني أثمنت إذ تخلصت في عصر الذرة من ربقة الثعالبي وابن السكيت والسرخسي والقلقشندي ، فان الفولكلور اللبناني الجميل كأحلام الطفولة ينوء بتلك القوالب الضخمة ، لأنه لم يولد على أيدي الفلاسفة واللغويين والفلكيين والمهندسين والرياضيين بل ولد في المنابت الشعبية التي تحتوي الفلاحين والمكارين والمعازين والعمال الألى شدتهم الى الطبيعة وشائج فآخوا بينهم وبين نباتها وحيوانها ، فاكتنفهم الشعور ببراءتها ، وتخففوا من همومهم فلاذوا بسحرها غير مشغولين بما وراءها ، فنعموا بالأساطير والقصص والخيال الذي لا يقف في طريقه برهان ، ولا علم كلما أوغلت فيه أنقض ظهرك ، وبهظ فكرك ، وسجنك بين الكيف والكم وحرمك لذة المجهول . ولعمري إنهم كانوا مع شظف عيشهم، أهدى سبيلا إلى الأخذ بأطايب الحياة من المتمدنين الذين كلما أمعنوا في الترف تلجلجوا في حبائله ، فلقوا منه رهقاً وهما ناصباً ، فما ينامون إلا على قلق ، وما يستفيقون إلا على مطمع ، ولقد غض كثيراً من جمال القمر ، الذي كان للبسطاء مطلع النور والبهاء ، علم المعاصرين بأنه صخور بركانية قائمة ذات صدوع و كهوف ، وما زاد في قيمته التنافس الى الهبوط فيه ، وأن ذلك البدر الذي يلبس الارض مطارف من نور هو دون الأرض وأخو الديجور.

ولقد يستغرب القراء من اخواننا اللاهجين بالضاد ، في الأمصار الشقيقة بعض المصطلحات والتقاليد والعادات التي حدثت بها ، ولكن كما أنه لكل زهرة عبير ، فكذلك لكل قطر خصائصه ومناحيه ومعانيه ، بَيْد أن الغراس وإن اختلفت أزهارها وثمارها يجمعها بستان الضاد التي كان للبنانيين اليد الطولى في رفع شأنها.

ولا يخفى على المطلع أني كنت جد صريح في ما كتبت ، فلئن عمدت الى المبضع في بعض المواطن فما أعفيت نفسي منه، فذكرت عثراتي وهفوات صباي، وأبديت مقاتلي ، فمن يطالع كتابي يطالعني مجرداً من أي تصنع أو تحفظ ، وله الحكم بما يشاء ، فما انا بالأديب اللغز ، ولا بالرجل المعقد ، وإني لأو من وأعمل بما أقول . ولئن كنت قد أبرزت ذاتي في مؤلفاتي السالفة ، ولا سيما في مذكرات جريح » و « حكاية عمر » و « خبز وملح » و « من شرفتي » و « ليالي الفندق » فاني في هذا المؤلف قد جريت على سجيتي فتركت لقلمي حبله على غاربه فلم أستبد به ولم أكفه.

ولرب معترض زعم أني قد أطلت الكلام على نفسي ، بلى وإن الكاتب هو الأسلوب ، وما تفردت بذلك ، فكل أديب يخلع على أبطاله صورة نفسه فيمتدح ويذم ، ويهاجم ويذود ، ويستقرى، ويستنتج ، ويلوم ويعذر ، ويقدم الأسباب ما لا يحصى ، لان المرء بحر مضطرب ينطوي على ألف سر وسر .

وإن معظم كتاب العالم لم يكونوا هم في واد وما كتبوه في واد آخر . ثم إن هذا الكتاب هو ذكريات تمتد من الخاص الى العام ، فاذا انا أطللت منها غير مرة فهبني أحد النماذج التي عرضتها عليك ، وبديهي أن يبدأ المرء بنفسه.

ولا يخفى أني مع شغفي بالريف لم يصدني الهوى عن العدل ، فذكرت المحامد، وأزريت على النقائص والتقاليد البالية، وتهكمت بالخرافات، وفندت الغباوة ، وحكيت بلسان المغتربين والمقيمين ، ولم أحجم عن التنديد بأمراض اجتماعية يتهامس بها الناس ويتحاشون الجهر بها ، فإن كبر الألى بينت زيفهم فإنما الحق أكبر . وما تردّدت في تجريح الشباب المائعين ، من خلعاء ماجنين ، عاقين متفيشين ، لا يرجون لدين ولا لدنيا.

وما أحسبني مقصراً في باب النوادر والملح التي استقيتها من صميم الفولكلور اللبناني ، وإن ذلك لفي طبعي فما أنا بطائر شؤم ينعب فيكدر صفو السامعين. فإن كنت قد أشعت الفكاهة في كتابي » مذكرات جريح » لئلا أثقل على القارىء فأروح غمامة سوداء في جوه ، فكيف بي وانا محدثه بفولكلور بلد ليس في المعمور كله أزهى منه أفقاً، وأضحى سماء ، وأرق هواء .

ولرب متعنت زعم أني خرجت عن خصائص الريف الى شؤون مشتركة، بلى ولقد قدمت الإنسان ، في المدينة كان أم في القرية . وإنه لهو هو برغم الفروق الناجمة عن الزمان والمكان ، فما أشبهه بالمياه يختلف طعمها ومحتواها تبعاً للتربة ويبقى جوهرها الأوكسجين والهيدروجين . فان كان المعلم يعقوب، والخوري ابراهيم ، والشيخ احمد ، الذين يأتيك خبرهم في مضامين الكتاب ، قد تفردوا بمزايا ريفية جليلة ، فانهم قد شاركوا ، في طباعهم وخصالهم ، سواهم من الخيرين في الساحل والجبل ، وفي الشرق والغرب.

وسترى في ثنايا المؤلف أني وإن تحدثت عن الماضي فلقد تصديت للحاضر وشؤونه ومهدت للمستقبل ، ناقداً موجهاً . ولا غروى فالأزمنة الثلاثة كالنهر متصل الينبوع بالتيار والمصب . ويجمل بي أن أقف عند هذا الحد من التصدير ، فالكتاب طويل ، وحسبي أن أشير إلى خط السير لتجري فيه أنت أيها القارىء ، ولست بأبصر منك ولا أهدى سبيلا ، فكلانا الى الغاية ، في طريق واضح ، ولسوف ندركها معاً ان شاء الله .

بولس سلامه
بيروت ٤ أيار سنة ١٩٦٨

Additional information

Weight 1.1 kg
Dimensions 1 × 1 × 1 cm